لم تتسم معنويات العونيين بهذه الايجابية منذ عودة النائب ميشال عون. الربح المعنوي آنذاك يساوي اليوم الربح السياسي الذي أثبتته خيارات «الجنرال» الصائبة في ما خص التكفيريين. لذلك ليس السؤال لماذا تأخر عون في دعم الجيش بل لماذا تكثر قوى 14 آذار من تصريحاتها وتبريراتها؟

بإمكان البعض أن يرى في غياب قيادة التيار الوطني الحر عن حلبة التصريحات السياسية، المزدحمة أصلاً بمواقف قوى 14 آذار، «تخاذلاً لمآرب رئاسية تحوم حول قائد الجيش جان قهوجي». وبإمكان البعض الآخر أن يفاخر بـ«عقلانية التيار وتفضيله الصمت الإيجابي على التعليق المضر بالجيش ومعنوياته». وقد يأخذ بعض ثالث على النائب ميشال عون عدم مسارعته الى فضح «خبث الآذاريين ودعمهم المشروط» للجيش، وربما يخيب أمل آخرين بخطابه «غير الحماسي» أمس. كثرت التأويلات والتساؤلات، فيما التزم عون توقيت الاجتماع الأسبوعي لتكتل التغيير والإصلاح لإطلاق موقفه الأول منذ بداية المعارك في عرسال بين الجيش والمجموعات الإرهابية.

فاجأ عون مناصريه وخصومه بخطابه الهادئ ودقة اختياره لعبارات تنفّس الاحتقان المذهبي، وتثني على «الوحدة الوطنية وراء الجيش». وفيما انتظر كثيرون هجوماً شرساً على 14 آذار وعلى «مبادرة» الحكومة وعلى موافقة قيادة الجيش على التفاوض مع الإرهابيين، حافظ عون على نبرة صوت منخفضة نسبياً، عكس معظم تصريحاته عقب اجتماع التكتل الأسبوعي. إلا أن جملة واحدة اختصرت أياماً من الصراخ المفترض توجيهه الى داحضي نظرية «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان»: «شهداؤنا غسلوا بدمائهم الخطأ الذي ارتكبه السياسيون. ولكن هل هذا الأسلوب مقصود أم مجرّد مصادفة؟

يجمع النائبان ابراهيم كنعان وآلان عون ووزير التربية الياس بوصعب على أن «خطاب الجنرال وطني وجامع، ويحمل مجموعة من الرسائل السياسية بعيداً عن الأسلوب السجالي الخطير في هذه المرحلة». يكررون: «ليس اليوم وقت فتح الملفات الداخلية»، وبإمكان النشاطات العونية أن تظهر بوضوح بصمة الرابية. فحملات التبرع بالدم للجيش التي نظمتها هيئات التيار في مختلف المناطق أبلغ تعبير من أي دعم لفظي؛ وخصوصاً أنها أثبتت في اليومين الماضيين فعاليتها عندما احتاجت المستشفيات إلى وحدات دم إضافية، فيما عكست الوقفات العونية التضامنية أمس، وفي كل المناسبات السابقة المتعلقة بالجيش، موقف عون من دون الحاجة الى تصريح علني. يشير أعضاء التكتل الى أن كلماتهم في اليومين الماضيين ليست إلا ترجمة لأفكار «الجنرال الذي لا يحتاج الى فحص دم وطني أسوة بالآخرين». وأكّد الثلاثة موقف الرابية الرافض «لأي قرار سياسي يحدّ من قرار الحسم العسكري» منذ البداية، وهو ما عبّر عنه بوضوح بوصعب قبيل دخوله جلسة مجلس الوزراء، أول من أمس. وقد أعاد عون توضيح الأمر أمس، مذكّراً بخسارة الجيش لكل المفاوضات مع «القوى التخريبية، لأنها لا تلتزم بمبادئ الاتفاق، بل بما يناسبها». وتلا ذلك انتقاد ضمني للحكومة، فـ«من يرفض التفاهم مع سوريا لا يمكنه التفاوض مع داعش».

رغم ذلك، وضع التيار الوطني الحر «القرار العسكري بيد الجيش كاملاً حتى لا يُقال لاحقاً إن القوى السياسية ضغطت على الجيش». وهكذا «بإمكان القائد التحرك بحرية على أرض المعركة كما يراه مناسباً، وهو يتحمل مسؤولية قرارات التفاوض وما شابهها». قد يعتبر بعض العونيين أن «مجرد استقبال قهوجي للشيخ السلفي سالم الرافعي المحرض على القوى الأمنية والمشتبك سابقاً معها، دعسة ناقصة ومكلفة بشرياً». لذلك، سارعوا الى توثيق ظنونهم ما ان أطلقت هيئة العلماء المسلمين تسمية «الثوار» على الإرهابيين وقاتلي الجيش. ولكن مجدداً، «ليس الوقت مناسباً للمحاسبة»، يقول العماد عون، و«الأحداث التي تحصل في عرسال سبق ونبّهنا إليها وحذرنا من الأخطاء». والحلّ يتطلب «تفاهماً مع سوريا لأجل مصلحة لبنان، ولا سيما أن التاريخ لا يرحم والحدود مشتركة بين البلدين». ففي القاموس العوني، «حان الوقت لإعادة الحوار بين اللبنانيين مع انتفاء وجود بيئة حاضنة للإرهاب». وفقاً للنائب كنعان، «أحداث عرسال هي نتيجة المخالفات الدستورية بملف النازحين والسياسات الخاطئة التي اعتمدت، ولكن المطلوب اليوم الالتفاف حول السياسة التي تحمي الجيش». وهمّ التكتل الحالي «المحافظة على البيئة الداعمة للجيش ووحدة المجتمع، بعيداً عن «السكوب» الذي يمكن أن تحققه الخطابات المهاجمة لتيار المستقبل وحلفائه». ويشير كنعان الى أن العونيين هم السباقون في المطالبة بضبط الحدود وتنظيم النزوح السوري الذي تحدث عنه الرئيس فؤاد السنيورة أمس، و«اتهمنا جراءه بالعنصرية سابقاً»!

لا يختلف عونيان اليوم على خطورة المرحلة واحتمال إضعاف الجيش وقائده عبر إطلاق الكلام التحريضي السلبي. ولا يحتاج التيار، بحسب ممثليه، إلى أي تصعيد في الكلام أو النبرة أو حتى توجيه الاتهامات يميناً ويساراً. فخطابات قوى 14 آذار الكثيفة وتبريرها لخطر داعش بتدخلّ حزب الله في سوريا، يدلّ على حجم الإرباك والفشل. تيار المستقبل واقع بين فكين، عدم قدرته على الموازنة بين رفضه لإرهاب «داعش»، من دون المسارعة الى تبريره بتدخلات حزب الله من جهة، ومحاولاته استيعاب سلفيي طرابلس ونوابهم والمسلحين السوريين من جهة أخرى، فيما القوات والكتائب ومشتقاتهما مشغولون بلملمة تداعيات إنكارهم للخطر الداعشي، بل ودعمهم حكم الإخوان وتوفير أرضية للتحركات المتطرفة. وسط كل ذلك، تحصد قيادة التيار الوطني الحر ونوابها ووزراءها وقاعدتها اليوم ثمار «خياراتها الصائبة رغم كل المغريات الدولية والمحلية. لقد ربحنا». منذ البداية، رفض التيار المساومة على مبادئه، يقول أحد المقربين من الرابية، ولا يزال عون هو نفسه قبيل أربعة أعوام في محور المقاومة: «بدأت الأحداث في تونس من دون أن يكون حزب الله موجوداً هناك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ليبيا. عقاب صقر عمل في توزيع الحليب والحفاضات للأطفال، قبل أن يكون حزب الله في سوريا، أي قبل أيار 2013. كلّ النيران اشتعلت من دون أن يكون حزب الله موجوداً».